الأحد، 15 أبريل 2012

ذكرى من روسيا 04.11



قصة حقيقية
ثلج يزمجر ، إقصاءً لأي دفء قد يتوه في الشارع المتجمد ، و يأتي .. و زمهرير عجلات قطار ، يلفحني لأتعجل .. أبحث عن تذكرتي ، المدسوسة في جواز السفر ، فأرى اليأس القاتل ينفجر ضاحكاً بوجهي . كان الكنز هنا .. و ليته كان كنزي ، لكنه راتب ثلاثة أشهر لطلابٍ ، يعيشون في ركن البرد ، بعيداً عن وطنهم . قلبتُ أشيائي ، و فرزتها قطعةً قطعة ، و نفضتها و رججتها ، عل يسقط منها شئ . أبت الضَحَكات ( بالشدة على الحاء كما يسميها أخوتنا في السودان ، لأننا بها نضحك ) أن تظهر 
هنا بكيت .. في العشرين من عمري ، بعضلات صدري المنفوخة ، و يديَ المفتولتين ، و بكل فتنة الشباب ، بكيت و ما خجلتُ ..
في غمرة حزني ، و الدمع يكاد يتجمد في برد موسكو ، خاطبني باللغة الروسية ، صوت أجش . ما يبكيك ؟ مثلك لا يبكي إلا لمصيبة .. لو كان مالي الخاص ، لما كنت أنفض معطفي الشتوي و أشق بطانته بأسناني ، عله يسقط منه شئ يفرحني فأهدأ . هناك من ينتظرني ، و ربما ديون تنتظرهم .
كرر ثانية ، ما بك .. 
استلمتُ رواتب زملائي من السفارة ، اشتريت لهم متطلباتهم ، و بتُ الليلة ، عند أصدقاء في سكن الطلاب . و ها أنا ، حين العودة لمدينتي ، أكتشف اختفاء المال . مبلغ هائل جداً بالنسبة لطالب ، ثم من سيصدق بأن المال ضاع . أهون ألف مرة أن أجدني تحت عجلات هذا القطار ، من أن أعود لهم متهماً بسرقة لقمة عيشهم .
سأعطيك المال المطلوب ، لكن بالروبل الروسي ، فليس لدي دولارات .
روسي في الخامسة و الأربعين من العمر ، ربما أكثر قليلا . لم يرني في حياته من قبل ، و لم أره ، و أنا القادم من اليمن ، مباشرة إلى مدينة ( يريفان ) عاصمة جمهورية أرمينيا . قرر أن يعطيني المال ، هكذا لوجه الله ، أو لوجه المسيح ، أو لوجه الإنسانية ، سمو ذلك كيفما شئتم .
يا رفيق : أنا طالب ، أتفهم ؟ ما من دخل عندي . و لو كان ، فسأحتاج لسنوات من التوفير لأسدد لك مالك . أرجوك ، دعني وهمي و شأني .
كتب شيئا ما على ورقة صغيرة ، و مدها لي .
نيكولاي بيتروف ، و عنوانه في مدينة فولغاغراد ، و رقم هاتفه المنزلي . هذا ما استطعت قراءته في تلك اللحظة ، بعينيَ المتجمدتين .
ما هذا ؟ سألته .. هذا عنواني و رقم هاتفي . و استطرد : سأعطيك المال ، و حين تستطيع اتصل بي ، او تعال لزيارتي و رده لي .
و قبل أن اتفوه بكلمة ، واصل حديثه ، و إن لم تستطع ، فالمال لك . لكني أعطيك المال ، و أثق تماماً بأنه سيعود .
دون ضمانات ، دون فوائد ، و الأدهى ، دون أدنى معرفة 
مد يده و أعطاني المال و أنصرف ، دون أن يلتفت للخلف ، و أختفى في زحمة البشرفي المحطة.
بعد أن خرجت من مرحلة الذهول ، تفحصت الأوراق النقدية .. لا لم تكن مسحورة . و تلفتُ يمنة و يسرة ، و ركزت على الأصوات . كل شيء حقيقي . ركبتُ القطار ، و لمدة ثلاثة أيام ، لم يزل الذهول هو السمة الأوضح لملامحي و تصرفاتي.
وصلت مدينتي ، وزعت مستحقات زملائي ، و أخليت عهدتي ، و عشت على ذكرى لم ألاقِ أروع منها طوال حياتي .
مرت أربع سنوات ، درست و تنقلت فيها ، و عملت فيها في التجارة ، و كنت اتصل به من وقت لآخر ، حتى لا يعتقد بأني نسيته .. جمعت مالاً أكبر بكثير من المبلغ الذي أعطانيه ، نيكولاي بيتروف . و قررت زيارته ، في فولغاغراد . اتصلت برقم الهاتف و أتضح بأنه لا يعمل . انقبض قلبي . و قررت الاستعجال بالزيارة .
وصلت في مثل هذا اليوم ، إلى مدينة فولغاغراد ، و ركبت سيارة أجرة و وصلت لعنوان نيكولاي و معي المبلغ الذي اقرضنيه و بعض الهدايا .
استقبلني ، و كأنه يعرفني منذ مليون عام . بفرح غامر و بكرم لا يوصف .
أخرجت النقود ، و مددتها إليه ، و نثرتُ له كل عبارات الشكر التي أعرفها بكل اللغات .
ردها لي و بكل هدوء قال . هذا المبلغ هدية مني لك . وصلني منك ما هو أكثر من كل مبالغ الدنيا . وصلني منك الوفاء ، حين كنت تستطيع نسياني ، و نسيان هذا الأمر .. لاحظ أني لم آخذ منك عنوان ، و لم أطلب منك أي وثيقة للتأكد من اسمك و جنسيتك .
استضافني يومين ، ثم رحلت و في حقيبة يدي ، نفس المبلغ ، و بعض الهدايا منه ( ما زلت احتفظ بها كذكرى ) ، و في قلبي حب للناس و للخير ، و أمل دائم لا يمكن أن يسقط
.. ..لا يمكن للإنسانية أن تسقط ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق